وبعدُ؛ فإنّ للشِّعْرِ لُمعةٌ خيالِيَّةٌ يتألَّقُ وَمِيضُها في سَماوةِ الفِكْرِ، فتنْبَعِثُ أشِعَّتُها إلى صَحيفَةِ القلبِ، فيفيض بلألائِها نوراً يتّصلُ خَيطُه بِأَسَلَةِ [أي: طَرَف] اللِّسَانِ، فينفثُ بألوانٍ مِنَ الحِكْمَةِ.
وخير الكلام ما ائتَلَفَت ألْفاظه، وائتَلَقَتْ معَانِيه، وكان قريبَ المأْخَذِ، بعيدَ المرمَى، سَليماً مِن وَصْمَة التكَلُّف، بريئاً من عَشْوَةِ التَعَسُّفِ، غنِيَّاً عن مراجَعَةِ الفكرةِ؛ هذه صفة الشِّعْرِ الجيِّدِ؛ فَمَن آتاهُ اللهُ مِنهُ حَظّاً،و كان كريم الشمائلِ، طاهرَ النَّفْسِ؛ فقد مَلَك أعِنَّة القلوب، ونالَ مَوَدّة النّفوس، وصار بين قومِهِ كالغُرَّةِ في الجواد الأدْهَم، والبدرِ في الظلامِ الأيْهَم [أي: الحالِك].
ولَو لَمْ يَكُنْ مِن حَسَناتِ الشِّعْرِ الحكيم إلا تهذيب النفوس وتدريبَ الأفهام وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق ، لكان قد بَلَغَ الغاية التي ليس ورءها لِذِي رغبَةٍ مسْرَح، وارْتَبَأَ [أي: عَلا] الصَّهوَةَ التي ليس دونها لذي همّةٍ مطمَح.
ومِن عجائبهِ تنافس الناس فيه، وتغايُر طباعهم عليه، وصغو الأسماع إليه،كأنّما هو مخلوقٌ مِن كلّ نفْسٍ، أو مطبوعٌ من كل قلبٍ؛ فإنّكَ ترى الأمم على اختلاف ألسنتهم، وتباين اخلاقهم وتعدد مشاربهم؛ لهجين به، عاكفين عليه، لا يخلو منه جيل دون جيل، ولا يختَصُّ به قبيل دون قبيل، ولا غروَ؛ فإنّه معرض الصفات، ومتجر الكمالات.
ولقد سمع عمر بن الخطاب -- قول زهير بن ابي سُلْمى:
فإن الحق مقطعه ثلاث ــــــــــــــــــــــــ يمين أو نفار أو جلاء
فجَعَلَ يَعْجَبُ من معرفته بمقاطع الحكمة وتفصيلها.
وللشعر رتبه لا يجهلها إلا مَن جَفَا طبْعُه، ونَبَا عن قَبُول الحكمة سَمْعُه؛ فهو حلْيَةٌ يزدان بجمالها العاطل، وعوذَةٌ لا يتَطَرَّقُ إليْها الباطل.
[من مقدمة الشاعر المُلْهَم "محمود سامي البارودي" لـ«ديوانه» (ص33-34)، طبعة دار العَودة]