الربيع بين البحتري وأبي تمام

أيام قلائل ويطرق أبوابنا ضيف عزيز نشتاق إليه كل الاشتياق حيث يؤثر في مشاعرنا أبلغ تأثير ويداعب وجداننا أروع مداعبة بجماله الوضّاء ورونقه المعطاء إنّه الربيع فصل البهجة والجمال والرونق والدلال كم تغنّى به الشعراء والأدباء مبتهجين بجماله الأخّاذ يأسر نفوس الأفذاذ .
ومتى ذكرنا الربيع تذكرنا شعراء روعة البيان وتألّق البديع تذكرنا (أبا تمام) و (البحتري) . وهذه مساجلة بينهما في وصف الربيع حيث يرسمان لوحات فنيّة حيّة بخطوطها الفنية نراها ونسمعها ونشعر بحركتها من خلال روعة الألفاظ وعميق المعاني وجمال البيان ورونق البديع في أرقّ نسيج .

وأترككم مستمتعين مع هذه المساجلة بين الشاعرين في وصف الربيع وأترك لكم الحكم أيهما الفائز بيانيا وبديعيا ؟

يقول البحتري في وصف الربيع :

أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً
منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا

وَقَد نَبّهَ النّيْرُوزُ في غَسقِ الدّجَى
أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا

يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ
يَبِثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا

وَمِنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيعُ لِبَاسَهُ
عَلَيْهِ كَمَا نَشَّرْتَ وَشْياً مُنَمْنَما

أحَلَّ، فأبْدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً،
وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما

وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ
يَجىءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا

فَما يَحبِسُ الرّاحَ التي أنتَ خِلُّهَا،
وَمَا يَمْنَعُ الأوْتَارَ أنْ تَتَرَنّما

وَمَا زِلْتَ خِلاًّ للنّدَامى إذا انتَشُوا،
وَرَاحُوا بُدوراً يَستَحِثّونَ أنْجُمَا

تَكَرّمتَ من قَبلِ الكؤوسِ عَلَيهِمِ،
فَما اسطَعنَ أنْ يُحدِثنَ فيكَ تَكَرُّمَا

ويقول أبو تمام في وصف الربيع :

نَزلَتْ مُقَدمَة ُ المَصِيفِ حَمِيدة ً
ويدُ الشتاءِ جديدة ُ لا تكفرُ

لولا الذي غرسَ الشتاءُ بكفهِ
لاَقَى المَصِيفُ هَشَائِماً لا تُثْمِرُ

كمْ ليلة ٍ آسى البلادَ بنفسهِ
فيها ويَوْمٍ وَبْلُهُ مُثْعَنْجِرُ

مَطَرٌ يَذُوبُ الصَّحْوُ منه وبَعْدَه
صَحْوٌ يَكادُ مِنَ الغَضَارة يُمْطِرُ

غَيْثَانِ فالأَنْوَاءُ غَيْثٌ ظاهِرٌ لكَ
وجههُ والصحوُ غيثٌ مضمرٌ

وندى ً إذا ادهنتْ بهِ لممُ الثرى
خِلْتَ السحابَ أتاهُ وهو مُعَذرُ

ما كانتِ الأيامُ تسلبُ بهجة ً
لو أنَّ حسنَ الروضِ كانَ يعمرُ

أولا ترى الأشياءَ إنْ هيَ غيرتْ
سَمُجتْ وحُسْنُ الأرْضِ حِينَ تُغَيَّرُ

يا صاحِبَيَّ تَقصَّيا نَظرَيْكُمَا
تريا وجوهَ الأرضِ كيفَ تصورُ

تريا نهاراً مشمساً قد شابهُ
زهرُ الربا فكأنما هو مقمرُ

دنيا معاشٌ للورى حتى
إذا جليَ الربيعُ فإنما هيَ منظرُ

أضحتْ تصوغُ بطونها لظهورها
نَوْراً تكادُ له القُلوبُ تُنَورُ

مِن كل زَاهِرَة ٍ تَرقْرَقُ بالنَّدَى
فكأنها عينٌ عليهِ تحدرُ

تَبْدُو وَيحجُبُها الجَمِيمُ كأنَّها
عَذْرَاءُ تَبْدُو تارَة ً وتَخَفَّرُ

حتَّى غَدَتْ وَهَدَاتُها ونِجَادُها
فِئتيْنِ في خِلَعِ الرَّبيع تَبَخْتَرُ

مُصْفَرَّة ً مُحْمَرَّة ً فكأنَّها
عُصَبٌ تَيَمَنُّ في الوَغَى وتَمَضَّرُ

منْ فاقعِ غضَّ النباتِ كأنه
ُ دُرٌّ يُشَقَّقُ قَبْلُ ثُمَّ يُزَعْفَرُ

ما أروع الربيع حقّا مع هذين الشاعرين وأترك لكم الحكم أيهما أدقّ وصفا للربيع ببيان تصويره ورونق بديعه .

(همسات نقدية)

١ أولا ما رأيكم في غرابة هذا التشيبه عند أبي تمام الذي يشوبه بعض التعقيد حين قال :

تريا نهاراً مشمساً قد شابهُ
زهرُ الربا فكأنما هو مقمرُ

فكيف شبه النهار المشمس بضوء القمر ؟
حقا هنا غرابة في التشبيه فضوء الشمس ممتزجا بزهر الربا يشبه ضوء القمر الفضيّ الخافت .
يا له من تعقيد في التشبيه الذي أراه وليدا لأثر البيئة المعقدة حضاريا التي كان يعيش فيها ذلك الشاعر العباسي البارع بما تحتويها من مظاهر حضارية في قصور ونافورات وبرك وامتزاج ثقافي بين الحضارات وفقا لطبيعة الجوار .

٢ ثانيا وما رأيكم في ذلك التشبيه عند أبي تمام المخالف للجو النفسي البهيج للربيع الفتّان حين قال :

مِن كل زَاهِرَة ٍ تَرقْرَقُ بالنَّدَى
. فكأنها عينٌ عليهِ تحدرُ

فكيف يشبّه جمال الزهرة عندما تتساقط على قطرات الندى وكأنها مقلة وعين دامعة أليس هذا مخالفا للجو النفسي للقصيدة البهيج لصورة الربيع ؟!
فاختيار الصورة التعبيرية بألفاظها يجب أن يكون ملائما للجو النفسي والوجداني للقصيدة أليس كذلك؟!

٣ حقيقة تشعر أنّك أمام صورة حيّة شخّص البحتري فيها الطبيعة وكأنه إرهاصا لسمات الرومانتيكية الحديث التي كانت الطبيعة عنصرا من عناصرها تشخيصا وتجسيدا مع الوصف الوجداني ولكن تشعرين أثر البيئة واضحا جليا مع البحتري في امتزاج الحضارات العربية والفارسية في استخدام كلمة "النيروز" وهو عيد الربيع بالفارسية وكأن روح الجوار دفعت بهذا اللفظ حثيثا إلى إبداع البحتري .

» سينية البحتري
» أبو تمام وعروبة اليوم
» أبو العاص بن الربيع وزينب بنت رسول الله