قال الأصمعي : أقبلت ذات مرة مِن مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جَلف جاف على قَعود له مُتقلدا سيفه وبيده قوسه فَدَنا وسلّم وقال : ممن الرَّجُل ؟!
قلت : مِن بني أصمع
قال : أنت الأصمعي ؟!
قلت : نعم
قال : ومِن أين أقبلتَ ؟!
قلت : مِن موضع يُتلَىٰ فيه كلام الرحمن
قال : وللرحمن كلام يَتْلُوه الآدميون ؟!
قلت : نعم
قال : فَاتْلُ عليّ منه شيئا فقرأت
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) إلى قوله (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)
فقال الأعرابي : يا أصمعي هذا كلام الرحمن ؟!
قلت : إي والذي بعث محمدًا بالحق إنه لَكَلامه
أنْزله على نبيه محمد صلىٰ الله عليه وسلم
فقال لي : يا أصمعي حَسبك
ثم قام إلى ناقته فنَحَرها وقطّعها بِجلدها وقال : أعنِّي على توزيعها ففَرّقناها على مَن أقبل وأدبر ثم عَمد إلى سيفه وقوسه فكسَرهما ووضعهما تحت الرَّحْل وولّىٰ نحو البادية وهو يقول :
" وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ "
قال الأصمعيّ : فَمَقَتُّ نفسي وَلُمْتُها ثم حججتُ مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بِصوت رقيق فالْتَفَتُّ فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحِل فسلّم عليّ وأخذ بيدي وقال :
اتلُ عليّ كلام الرحمن وأجلسني مِن وراء المقَام فقرأتُ "وَالذَّارِيَاتِ) حتى وصلتُ إلى قوله تعالى : (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"
فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وَعدنا الرحمن حقّا
ثم قال : يا أصمعي هل غير هذا للرحمن كلام ؟!
قلتُ : نعم ؛ يقول الله عَزّ وَجَلّ :
"فوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ"
فصاح الأعرابي ، وقال :
يا سبحان الله مَن ذا أغضب الجليل حتى حَلَف ؟ !
ألم يُصدّقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟! فقالها ثلاثا وخَرَجَت بها نفسه...!
الجامع لأحكام القرآن
للقرطبي