لماذا انحنيت ؟!
د / جابر قميحة
............................
من وراء الغيب المجهول صاح طيف الأب المقبور،
يتحدث إلى ابنه الذي أهدر تركةَ أبيه، ونقَضَ وصيتَه.
* * *
أَلمْ أُوصِكَ الأمْسَ قَبْلَ الممَاتِ : فَأيْنَ وَصَاتِي الَّتِي مَا وَعَيْتْ ؟
وَفِيهَا كَتبْتُ: " تَزُولُ الجِبَالُ : ولا تَنْحنِي أَبَدًا " فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا " سَتَعْصفُ هُوجُ الرِّيَاحِ : فَكُنْ قِمَةً صُلْبَةً " فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا " سَيمتدُّ لَيلُ الأسَى : فَلا تَبْتَئِسْ بالأسى " فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا " يَكُونُ جَفَافٌ وَجُوعٌ : فَمُتْ بِالطَّوَى شَامِخًا " فَانْحَنَيْتْ
وَفِيهَا " انتَصِرْ بِالثباتِ العَتِيِّ : وَبِالصَّبْرِ فِي عِزَةٍ " فَانْحَنَيْتْ
وَقُلْتُ " تَجَنَّبْ مَخَازِيَ الطّرِيقِ " : ولكنْ لخزي الطريقِ انتَهَيْتْ
وعَانقْتَ فيه الأفاعي الكبارَ : ومِن سُمِّها – يا غبيُّ– ارتويْتْ
فَأين وصاةُ أبِيكَ الَّذي : إلى دفْء مُهجتهِ قدْ أَوَيْتْ ؟
وكَمْ سهرَ الليلَ يَحمِي حِماكَ : وَيبكِي دماءً إذَا ما بَكَيْتْ
ويَحملُ عنْكَ هُمومَ الحَياةِ : ويَرْعَى الذي بعدَهُ مَا رَعَيْتْ
عَصيتَ وَصَاتِي التي صُغْتُها : بدمِّي، وللمُخزياتِ مشيْتْ
وكُنْتُ أَظُنُّكَ نعمَ الوريثُ : فكيفَ تَبيعُ الذي مَا اشتريْتْ ؟
فبعْتَ جَوادِي الأصيلَ الكريمَ : وأُمًّا، وأُخْتًا، وأَرْضًا، وبَيْتْ
وشعرِي بعْتَ، ونخْلِي بعْتَ : وسيْفِي، ورُمْحِي، وسرْج الكُمَيْتْ
وبعْتَ سريرِي الذي فوقَهُ : وُلدْتَ، وكمْ نمْتَ حتى اسْتَوَيْتْ
للصٍّ بَغِيٍّ، عُتُلٍ، زَنِيمٍ : على قدميه – خَسئْتَ – ارتميْتْ
لِتَلْثَمَ نعْليه في ذِلَّةٍ : وتَلْعَقَ طِينهمَا.. مَا استَحَيتْ
فكيفَ تَبيعُ التراثَ العزيزَ : بكِسْرَةِ خبزٍ، ونقطةِ زَيتْ ؟!
وتاجٍ من الشوكِ يُدمي الجبينَ : ووعدٍ كذوبٍ، وكِيْتٍ، وكيْتْ ؟!
وعرشٍ حقيرٍ، لهُ لمْعةٌ : من البهرجاتِ.. إليهِ ارتقيْتْ ؟
ولمْ تدْرِ أنَّكَ حين اعتليْتَ : هَبطْتَ بمَا أنْتَ فيهِ اعتليْتْ
وفي موكبِ الذُلِّ صرْتَ الأميرَ : ذليلاً، كسيحَ المسارِ، مشيْتْ
فلا تمْلكُ الأمرَ إمَّا تَشَا : ولا النهيَ تملكُ إمَّا نويْتْ
وتصدعُ بالأمرِ إمّا أُمِرْتَ : وينفذُ أمْرُ العِدا إن نهيْتْ
فلمَّا سكرْتَ بخمر الخِداعِ : ومالتْ بكَ الخمرُ لما انتشيْتْ
غدوْتَ لغيرِكَ أضحوكةً : فليسَ سوى الخُسْرِ ما قدْ جَنيْتْ
وقلْنَا " اكتفيْتَ بما قدْ جَمعْتَ : مِن العَارِ " ، لكنما ما اكتفيْتْ
فعن قوسِ أعدائنا قد رَمَيْتَ : فواحسرتاهُ على من رَمَيْتْ !!
بسهمكَ خرَّ عزيزٌ أَبِيُّ : بجمرِكَ قلبًا طهورًا كَوَيْتْ
أتحمِي حياةَ العدوِّ العقورِ : وأيضًا تُراثِي لهم قدْ حميْتْ ؟!
أأبكِي عليكَ؟ أأبكِي إليكَ؟ : أأبكِي علينَا لِمَا قدْ جَنيْتْ ؟
ففي غدِكَ المُستباحِ الجريحِ : ستصرخُ يا ليتني ما انحنيْتْ
ويرتدُّ سهمُك في مُقلتيكَ : ولن يُنقذَ البيتَ آلاف لَيْتْ
فليس لما قدْ كسرْتَ انجبارٌ : بما قد جررْتَ، وما قدْ غويْتْ
وتُدْركُ – بعدَ فواتِ الأوانِ : بأنكَ لمَّا انْحَنَيْتَ انْتَهَيْتْ
ومَا دُمْتَ قدْ بعْتَ حتَّى الحُطامَ : ولم تُبْقِ أُمًّا، وأرضًا وبيْتْ
فإنِّي أخشى غدًا أنْ تبيعَ : عِظَامِي، وقبرًا بِهِ قدْ ثويْتْ