لشاعر الزهد
أبي العتاهية رحمه الله
____________________
كَأَنَّكَ قَد جاوَرتَ أَهلَ المَقابِر
هُوَ المَوتُ يا ابنَ المَوتِ إِن لَم تُبادِرِ
تَسَمَّع مِنَ الأَيامِ إِن كُنتَ سامِعا
فَإِنَّكَ فيها بَينَ ناهٍ وَآمِرِ
وَلا تَرمِ بِالأَخبارِ مِن دونِ خِبرَةٍ
وَلا تَحمِلِ الأَخبارَ عَن كُلِّ خابِرِ
فَكَم مِن عَزيزٍ قَد رَأَينا امتِناعَهُ
فَدارَت عَلَيهِ بَعدُ إِحدى الدَوائِرِ
وَكَم مَلِكٍ قَد رُكِّمَ التُربُ فَوقَهُ
وَعَهدي بِهِ في الأَمسِ فَوقَ المَنابِرِ
وَكَم دائِبٍ يُعنى بِما لَيسَ مُدرِكاً
وَكَم وارِدٍ ما لَيسَ مَنهُ بِصادِرِ
وَلَم أَرَ كَالأَمواتِ أَبعَدَ شُقَّةً
عَلى قُربِها مِن دارِ جارٍ مُجاوِرِ
لَقَد دَبَّرَ الدُنيا حَكيمٌ مُدَبِّرٌ
لَطيفٌ خَبيرٌ عالِمٌ بِالسَرائِرِ
إِذا أَبقَتِ الدُنيا عَلى المَرءِ دينَهُ
فَما فاتَهُ مِنها فَلَيسَ بِضائِرِ
إِذا أَنتَ لَم تَزدَد عَلى كُلِّ نِعمَةٍ
خُصِصتَ بِها شُكراً فَلَستَ بِشاكِرِ
إِذا أَنتَ لَم تُؤثِر رِضى اللَهِ وَحدَهُ
عَلى كُلِّ ما تَهوى فَلَستَ بِصابِرِ
إِذا أَنتَ لَم تَطهُر مِنَ الجَهلِ وَالخَنا
فَلَستَ عَلى عَومِ الفُراتِ بِطاهِرِ
إِذا لَم يكُن لِلمَرءِ عِندَكَ رَغبَةٌ
فَلَستَ عَلى ما في يَدَيهِ بِقادِرِ
إِذا كُنتَ بِالدُنيا بَصيراً فَإِنَّما
بَلاغُكَ مِنها مِثلُ زادِ المُسافِرِ
وَما الحُكمُ إِلّا ما عَلَيهِ ذَوُ النُهى
وَما الناسُ إِلا بَينَ بَرٍّ وَفاجِرِ
وما من صباح مر إلا مؤدبا
لأهل العقول الثابتات البصائر
أَراكَ تُساوى بِالأَصاغِرِ في الَصبا
وَأَنتَ كَبيرٌ مِن كِبارِ الأكَابر
كَأَنَّكَ لَم تَدفِن حَميماً وَلَم تَكُن
لَهُ في حِياضِ المَوتِ يَوماً بِحاضِرِ
وَلَم أَرَ مِثلَ المَوتِ أَكثَرَ ناسِيا
تَراهُ وَلا أَولى بِتَذكارِ ذاكِرِ
وَإِنَّ امرَأً يَبتاعُ دُنيا بِدينِهِ
لَمُنقَلِبٌ مِنها بِصَفقَةِ خاسِرِ
وَكُلُّ امرِئٍ لَم يَرتَحِل بِتِجارَةٍ
إِلى دارِهِ الأُخرى فَلَيسَ بِتاجِرِ
رَضيتُ بِذي الدُنيا لِكُلِّ مُكابِر
ِمُلِحٍّ عَلى الدُنيا وَكُلِّ مُفاخِرِ
أَلَم تَرَها تَرقيهِ حَتّى إِذا صَبا
فَرَت حَلقَهُ مِنها بِمُديَةِ جازِرِ
وَما تَعدِلُ الدُنيا جَناحَ بَعوضَةٍ
لَدى اللَهِ أَو مِقدارَ زَغبَةِ طائِرِ
فَلَم يَرضَ بِالدُنيا ثَواباً لِمُؤمِنٍ
وَلَم يَرضَ بِالدُنيا عِقاباً لكافر